- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر . وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر . اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الإيمان عملية بناء مستمرة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ بضعة من الأحاديث الشريفة تبدأ بقوله صلى الله عليه وسلم :
((ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ بهنَّ طَعْمَ الإيمان))
كل إنسان أقرّ بوجود خالق لهذا الكون فهو مؤمن ، ولكن هذا المستوى من الإيمان هل ينجيه من عذاب الدنيا أو الآخرة ؟ هذا المستوى أن تقر بوجود خالق لهذا الكون ليس غير لا يكفي لنجاتك من مزالق الحياة الدنيا ؛ من فتنها ، من شهواتها ، من ضلالاتها ، من شبهها ، لذلك ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾
إذاً الإيمان مستويات ، بعض مستوياته لا تكفي ، ولا تنجي ، ولا تقي ، ومستوياته الأخرى تنجي ، وتسعد في الدنيا والآخرة . فلا ينبغي للمؤمن أن يقنع بدرجة من الإيمان ، لعل هذه الدرجة لا تصمد أمام المغريات ، لعل هذه الدرجة لا تصمد أمام الضغوط ، لابد لك من إيمان قوي ، والدليل على ذلك أن أصحاب النبي عليهم رضوان الله الذين كانوا معه، وكانوا يسمعون القرآن يُتلى من فمه الشريف ، ويسمعون حديثه الصحيح من فمه ، ومع ذلك حينما ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً قال الذين في قلوبهم مرض : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا . هذا كلام دقيق وخطير ، أن تصف نفسك بالإيمان ، لعل هذا الإيمان لا يقوى على مجابهة الأحداث ، لعل هذا الإيمان لا يصمد أمام الضغوط ، لعل هذا الإيمان لا يتماسك أمام المغريات ، وما أكثر إغراءات الحياة ، وما أكثر الفتن ، الدنيا خضرة نضرة ، شهواتها مستعرة ، فتنها يقظى ، فالذي أريد أن أوضحه لكم من خلال هذا الحديث الشريف أن الإيمان عملية بناء مستمرة ، وليست إقراراً ليس غير .
ارتباط حجم العمل الصالح بحجم الإيمان :
وفي أحاديث كثيرة قال عليه الصلاة والسلام :
(( جددوا إيمانكم ))
أنت علمك الصالح حجمه بحجم إيمانك ، انضباطك حجمه بحجم إيمانك ، التزامك بأوامر الدين حجمه بحجم إيمانك ، فكلما ارتقى الإيمان ارتقى معه الورع ، كلما ارتقى الإيمان ارتقى معه الالتزام ، كلما ارتقى الإيمان ارتقى معه البر والعطاء . فلا تقنع أيها الأخ الكريم بمسوى من الإيمان ، قد تكون توارثته عن أمك وأبيك ، أو عن معلمك ومربيك ، أو عن خطباء المساجد ، لابد من بحث ، ولابد من تدقيق ، لابد من تأمل ، لابد من مداومة ، لابد من دراسة ، يقول عليه الصلاة والسلام :
((ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ بهنَّ طَعْمَ الإيمان))
من مستويات الإيمان أن تذوق حلاوته ، كيف تذوق حلاوة الحلوى ؟ كيف أن حلاوة الحلوى شيء واقعي تذوقه بلسانك ولا تشك فيه ، النبي عليه الصلاة والسلام قرَّب لك المفاهيم ، قال :
((ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ بهنَّ طَعْمَ الإيمان))
هل ذاق القلب حلاوة الإيمان أم أنت في مستوى الإقرار ؟ الإسلام عندك معلومات ، ثقافات ، علم كلام ، قناعات ، أحكام ، أم الإسلام أذواق ومواجيد ، أم الإسلام عندك والإيمان مشاعر لا تبيع الدنيا بها ؟
حلاوة الإيمان تحمل الإنسان على الصبر :
أيها الأخوة الأكارم ؛
((ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ بهنَّ طَعْمَ الإيمان))
ما الذي يدفعك إلى تحمل مشاق الطاعات ؟ لو رأينا رجلاً يعمل في البرد الشديد، وفي مكان خطر ، ما الذي يدفعه إلى تحمل هذه المشاق - أن يعمل في مكان خطر وفي وقت شديد البرودة -؟ أغلب الظن أن الأجر المرتفع يغطي عنده هذه المشاق . المؤمن ما الذي يدفعه لتحمل مشاق الطاعات والطاعات كلها تكاليف ، والتكاليف تعني أنها ذات كلفة ؟ ما الذي يحمل المؤمن على أن يصبر عن الشهوات ؟ ما الذي يحمله كي يحمل مشاق الطاعات ؟ وما الذي يحمله على أن يصبر على الشهوات ؟ وما الذي يصبِّره على أمر الله التكليفي ؟ أمر الله التكليفي افعل ، ما الذي حمله على أن يفعل وأمر الله التكليفي لا تفعل ؟ ما الذي منعه ألا يفعل وأمر الله التكويني أن الله سبحانه وتعالى شاءت حكمته أن يصيب الإنسان ببلاء ؟ ما الذي يحمله على الصبر ؟ أغلب الظن ، بل اليقين القطعي هو حلاوة الإيمان . حلاوة الإيمان تفعل فعل السحر بالنفس ، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام :
(( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . . ))
هذه الفقرة من الحديث تترجم ترجمة واقعية ، حينما تطيع ما سوى الله وتعصي الله، فاقطع يقيناً أنك تحب هذا الذي أطعته وعصيت خالقك أكثر من الله ، حينما تطيع مخلوقاً وتعصي الخالق ، تفسير ذلك أنك ترى هذا المخلوق رضاه أغلى عليك من رضا الله ، وسخطه أشد عندك من سخط الله ، ومحبته أغلى عندك من محبة الله ، لكن المؤمن الصادق أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما .
من غضّ بصره عن محارم الله أورثه الله حلاوة في قلبه إلى يوم يلقاه :
من بعض مستويات الحديث أن تحب أن تنفذ أمر الله عز وجل وأمر النبي عليه الصلاة والسلام أكثر مما تحب أن تنفذ أمر الآخرين ، بل إن هناك كما قال العلماء محبة عقلية أي أنت كمثقف تقرأ كلمة عن بعض أنواع الغذاء ، وهذا الغذاء لا تحبه أنت ، ولكن نظراً لفوائده الكثيرة تقبل عليه ، وهذا الإقبال ينطلق من محبة علمية ، وليس من محبة شعورية ، فالحد الأدنى أن ترى بعقلك أن طاعة الله أثمن من طاعة المخلوقين ، وإن إرضاء الله أجدى وأنجح وأربح من طاعة المخلوقين ، أو من رضا المخلوقين ، فلذلك إذا كان الله ورسوله أحب إليكم مما سواهما فأبشروا فأنتم مؤمنون وربِ الكعبة ، ولابد من أن تذوقوا حلاوة الإيمان .
حينما تعرض لك الدنيا بشهواتها ، بمباهجها ، بفتنها ، بمسراتها وتقول : إني أخاف الله رب العالمين ، حينما تصرف نفسك عن الهوى الذي لا يريده الله عز وجل تذوق حلاوة الإيمان ، تذوق حلاوة القرب ، ولا أدل على ذلك من شيء بسيط بين أيديكم ، حينما تغض بصرك عن محارم الله ، أو حينما تغض بصرك عن امرأة لا تحل لك ، أذاقك الله بعد غض البصر حلاوة الإيمان ، من غض بصره عن محارم الله أورثه الله حلاوة في قلبه إلى يوم يلقاه .
الأمور التي يذوق الإنسان من خلالها حلاوة الإيمان :
أيها الأخوة الأكارم ؛ إذا كان مستوى إيماننا مستوى فكرياً فلنرق به إلى مستوى نفسي ، وإذا كان مستوى إيماننا مستوى نفسياً فلنرق به إلى مستوى شهودي . قال تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾
فشتان بين من يطبق الأمر والنهي ، ونفسه في واد ، وعمله في واد ، وبين من يذوق حلاوة الإيمان ، وشتان بين من يذوق حلاوة الإيمان وبين من يرى ملكوت السموات والأرض ، بين من يذوق ، وبين من يرى حقائق الأشياء .
الشيء الثاني : أولاً حتى تذوق حلاوة الإيمان ، حتى تقول بملء فمك : ليس في الأرض أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني ، حتى تشعر أن الإيمان شيء ثمين جداً ، ليكن أمر الله ، وأمر رسوله أحب إليك مما سواهما .
أنت وسط مجتمع ، تتلقى آلاف التوجيهات ، آلاف الضغوط ، آلاف المغريات ، إذا كان الله بمعنى إذا كان أمر الله ، وإذا كان رسوله بمعنى أنه أمر رسوله ، إذا كان الله ورسوله ، أي أن أمر الله ورسوله أحب إليك من أوامر الناس جميعاً ذقت حلاوة الإيمان ورب الكعبة .
فَلَيتَكَ تَحلو و الحَياةُ مَريــــــــرَةٌ وَلَيتَكَ تَرضى وَالأَنامُ غِضـــــابُ
وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِـرٌ وَبَيني وَبَينَ العـالَمينَ خَـــــرابُ
وليت شرابي من ودادك سائغ وشربي من ماء الفرات سراب
***
البند الثاني الذي يجعلك تذوق حلاوة الإيمان : أن يحب المرء لا يحبه إلا لله . بنيت علاقات الناس على المصالح ، المصالح تعزز علاقات الناس بعضهم ببعض ، ولكن - أيها الأخ الكريم- ألك علاقة مع إنسان لا تبتغي بها مصلحة ولا منفعة ولا جاهاً ولا سمعة ولا نجاة ولا مكسباً ؟ أفي حياتك شخص لا تحبه إلا لله ؟ لا ينفعك ولا يضرك ولا يقدم لك شيئاً من الدنيا ، لكن علاقتك به خالصة لوجه الله عز وجل ؟
إذا كان لك أخ مؤمن تحبه ويحبك ، وتصله ويصلك ، وتكرمه ويكرمك ، وتزوره ويزورك ، وتتعاون معه ويتعاون معك ، لا تبتغي من هذه العلاقة ، ولا من هذه الزيارة ، ولا من هذه الصلة ، ولا من هذا التعاون إلا وجه الله الكريم ، أبشر لابد من أن تذوق حلاوة الإيمان .
(( وَجَبَتْ محبَّتي للمُتَحَابِّينَ فيَّ ، والمُتجالِسينَ فيَّ ، والمُتزاورينَ فيَّ ، والمتباذلينَ فيَّ ، المتحابُّون في جلالي لهم منابرُ من نُور يغبِطهم النبيُّون والشهداءُ ))
ألك مسجد تأوي إليه ؟ ألك أخوة أطهار تحبهم ويحبونك ولا علاقة مادية بينك وبينهم ؟ ألك أخ تخفي له الود ؟ هذه علامة ثانية على صحة الإيمان وعمقه ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وبين أيديكم تاريخ الصحابة الكرام . والله الذي لا إله إلا هو لو قرأتم تاريخ الصحابة لقلتم هؤلاء بشر ، إذاً نحن لسنا ببشر ، وإن قلتم نحن بشر ، فهؤلاء فوق البشر ، هكذا كانت علاقتهم ، هكذا كان ودهم ، هكذا كانت أخوتهم ، هكذا كان عطاؤهم ، هكذا كانت مؤاثرتهم ، قال تعالى :
﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا يذوق المؤمن حلاوة الإيمان إلا إذا كان له أخ يمحضه الود ، والنصيحة ، والمعونة ، والعطاء ، والصلة ، وما إلى ذلك ، أي هل أنت في الأعماق أم أنت على الساحل ؟ إذا كنت في الأعماق فأنت في أعماق الإيمان .
المنافق حدوده رقيقة شفافة :
(( . . وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار ))
أي المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين ، تارةً مع هؤلاء ، وتارةً مع هؤلاء ، الحدود بين دولة الإيمان ودولة الكفر ، عند المنافق حدود رقيقة شفافة ، تارة يميل إلى هؤلاء ، وتارة إلى هؤلاء ، ولكن المؤمن الصادق في أعماق الأعماق ، أي لو قطعته إرباً إرباً لا يرضى بإيمانه بديلاً ، والدليل موقف سحرة فرعون قال : آمنتم له قبل أن آذن لكم ، إنه . .
لابد من موقف حازم ، النبي عليه الصلاة والسلام وصف المؤمن بأنه قوي في دينه ، أي كلمة لا عنده يقولها بملء فمه ، ألم يقل عليه الصلاة والسلام :
(( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي على أن أدع هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))
أيها الأخوة المؤمنون ؛ حياة بلا قيم لا تُعاش ، حياة بلا مبادئ لا تُعاش ، حياة بلا هدف كبير لا تُعاش ، شرف المؤمن قيامه بالليل ، وعزه استغناؤه عن الناس .
﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾
هم غارقون في شهواتهم ، غارقون في وحولهم ، غارقون في لذاتهم ، ولكن الصحوة عند الموت ، يصيح الرجل صيحة لو سمعها أهل الأرض لصعقوا بها .
أيها الأخوة الأكارم ؛ أعيد على أسماعكم نص الحديث الشريف :
((ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ بهنَّ طَعْمَ الإيمان))
من أجل أن تذوق حلاوة الإيمان ، من أجل أن يكون إيمانك ذوقياً لا فكرياً ، وإذا وصلت إلى حلاوة الإيمان فاسع إلى الإيمان الشهودي .
((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار ))
أمور ثلاثة تُشعر الإنسان بأن الله راض عنه :
أيها الأخوة الأكارم ؛ حديث شريف آخر : يقول عليه الصلاة والسلام :
(( ثلاث من كن فيه نشر اللّه عليه كنفه وأدخله الجنة ؛ الرفق بالضعيف ، والشفقة على الوالدين ، والإحسان إلى المملوك))
ألا تحبون أن ينشر الله عليكم ستره وحفظه وتوفيقه وتأييده ونصره ؟ ألا تحبون أن تكونوا ممن تعينهم هذه الآية ولو أنها موجهة إلى النبي عليه الصلاة والسلام ؟
﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾
أي شعور يشعره المؤمن يفوق شعوره بأن الله راض عنه ، وبأنه في ظل الله، وبأنه في رعاية الله وتوفيقه ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( ثلاث من كن فيه نشر اللّه عليه كنفه وأدخله الجنة ...))
وقد فسر شرَّاح الحديث كنفه بكلمة ستره ، وصونه ، وحفظه ، وتأييده ، وتوفيقه. وأدخله الجنة . . في الدنيا محفوظ ، وفي الآخرة مرحوم ، له جنتان جنة في الدنيا ، وجنة في الآخرة ، رفق بالضعيف ، لا يوجد إنسان إلا وحوله ضعفاء ؛ ممن يلوذ به ، ممن تحت يده ، ممن يعملون معه ، ممن هم في جواره ، ممن هم في عمله ، أنت أعلى وهناك أدنى وهذه حكمة الله عز وجل ، فإذا رفقت بالضعيف ، أحسنت إليه ، أنصفته ، استمعت إليه ، لبيت حاجته ، أغثت لهفته ، فالله تعالى في عليائه يرحمك ، وقد ورد في بعض الأحاديث القدسية :
(( إن كنتم ترجون رحمتي فارحموا خلقي ))
إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، وما دام العبد في عون أخيه ، فثلاث من كن فيه نشر الله عليه كنفه ، وأدخله جنته . . رفق بالضعيف ، هناك ضعف مادي ، هناك مريض ، هناك فقير ، وهناك ضعف معنوي ، إنسان مركزه ضعيف ، لكنه مستقيم ، والجميع يكيدون له ، وأنت مؤمن ، فإذا دعمته ، وقويت مركزه ، ودافعت عنه ، أكرمك الله عز وجل ، لأنه من أكرم أخاه المؤمن فكأنما أكرم ربه .
قال : وشفقة على الوالدين ، هؤلاء الذين كانا سبب وجودك في الدنيا ، هؤلاء الذين عاشا لك ، قدما كل شيء من أجل سعادتك ، ألا يستحقان العطف والبر ؟ لذلك ورد في بعض الأحاديث :
(( ليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة ))
وقد ورد في بعض الأحاديث القدسية ، يقول الله عز وجل :
(( عبدي ماتت التي كنا نكرمك من أجلها ، فاعمل صالحاً نكرمك من أجلك ))
من كان له والدان على قيد الحياة فليعلم علم اليقين أنه بإمكانه أن يدخل الجنة ببرهما ، وقد ورد هذا في نص الحديث الشريف قال عليه الصلاة والسلام :
((قابل الله في برها))
بإمكانك أن تلقى الله في بر أمك وأبيك .
أيها الأخوة الأكارم ؛ كلمة بين قوسين ، بإمكانك أن تدخل الجنة بأبوة مثالية ، وبإمكانك أن تدخل الجنة ببنوة مثالية ، وبإمكانك أن تدخل الجنة من خلال عملك الحرفي إذا أتقنته ، وأخلصت للناس فيه ، وجعلت السعر معتدلاً لا يثقل كاهلهم ، ونصحتهم ، ولم تبن ربحك على صحتهم ، بإمكانك أن تلقى الله بعملك الحرفي ، بمورد رزقك ، وهذا أقوله كثيراً : عملك المهني إذا كان مشروعاً في الأصل ، ومارسته بطريقة مشروعة ، وأتقنته كما أمر به النبي عليه الصلاة والسلام ، وابتغيت به أن تكفي نفسك ، وأهلك ، وأولادك ، ونصحت المسلمين ، ولم يشغلك عن فريضة صلاة ، ولا عن طاعة ، ولا عن مجلس علم ، انقلب هذا العمل الصالح إلى عبادة كالصلاة .
أيها الأخوة الأكارم ؛
(( ثلاث من كن فيه نشر اللّه عليه كنفه وأدخله الجنة ؛ الرفق بالضعيف ، والشفقة على الوالدين ، والإحسان إلى المملوك ))
أي لا يخلو الأمر أن يكون إنسان تحت إشرافك ، أو مصيره بيدك ، أو منوط أمره إليك ، فإذا أنصفته ، إذا رحمته ، إذا أعطيته ، إذا أكرمته استحققت أن يرحمك الله عز وجل .
ثلاثة أمور من فعلها كان حسابه يسيراً و أدخل الجنة :
أيها الأخوة الكرام ؛ يقول عليه الصلاة و السلام أيضاً :
((ثلاث من كن فيه حاسبه الله حساباً يسيراً وأدخله الجنة برحمته ؛ تعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك ))
تعطي من حرمك . أتستطيع أن تفعل ذلك ؟ أن تعطي من حرمك عطاءه أو مودته ؟ قال بعضهم : هذه أخلاق الأنبياء . قال تعالى :
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾
مرةً لقي رجل عالماً ، أو داعيةً فقال له : يا سيدي إني أشفق عليك مما يقوله الناس في حقك ، فقال هذا العالم الداعية : هل سمعت مني شيئاً عليهم ؟ قال : لا ، قال : عليهم أشفق . من عصى الله فيك عليك أن تطيع الله فيه ، ردك الكامل أن تطيع الله فيه .
من أدى زكاة ماله وأقرى الضيف وأعطى على النائبة فقد وقي شح نفسه :
أيها الأخوة الأكارم ؛ الحديث الأخير :
(( ثلاث من كن فيه وقي شح نفسه ؛ من أدى الزكاة ، وقرى الضيف ، وأعطى في النائبة ))
من أدى الزكاة ، أي إذا قلت عن إنسان يدفع الزكاة : هذا شحيح أو هذا بخيل ، فقد وقعت في إثم كبير ؛ لأن الذي يؤدي زكاة ماله لا يمكن أن يكون شحيحاً ، ولا يمكن أن يكون بخيلاً . وقد أعطانا النبي علامات كثيرة ، قال :
(( برئ من الشح من أدى زكاة ماله وبرئ من الكبر من حمل حاجته بيده ))
(( من أكثر ذكر الله فقد برئ من النفاق ))
(( ثلاث من كن فيه وقي شح نفسه : من أدى الزكاة ، وقرى الضيف . .))
قال بعض المفسرين : إن قوله تعالى وهو يحدثنا عن سيدنا إبراهيم :
﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ﴾
من هذه الآية الموجزة ، وبكلماتها المحدودة تُستنبط آداب الضيافة .
كلمة راغ : أي انسل خفية . هذا الذي يقول لضيفه : أتحب أن تتغدى ما قولك ؟ قل ، يقول : لا ، لا أحب . راغ إلى أهله أي انسل من ضيفه خفية ، وما لبث أن جاء بعجل سمين ، أي مستعد ، وطعامه طيب ، والمؤمن كالنحلة ، لا تأكل إلا طيباً ، ولا تطعم إلا طيباً ، فقربه إليهم، تقريب الطعام من الضيف من السنة ، وبعد التقريب ؛ تفضل كل . قال : ألا تأكلون ؟ أن تكون مستعداً ، وأن تطعم الطعام .
وأقرى الضيف ، وأعطى في النائبة . . إنسان مُبتلى بمرض عضال ، إنسان مُبتلى ببيت قد تهدم في الشتاء ، إنسان مبتلى بمصيبة ، يقول : أنا أديت زكاة مالي . هذا كلام مردود ، في المال حق سوى الزكاة . وحينما قال الله عز وجل :
﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾
ولم يقل معلوم ، قال العلماء : هذه الصدقات ، وحينما استنبط النبي عليه الصلاة والسلام من هذه الآية أن في المال حقاً سوى الزكاة ، أي أديت زكاة مالك بقي حق الإنسانية عليك ، اسمع قوله تعالى ـ أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه الآية نتلوها عليكم كل خطبة دائماً وأبداً :
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾
العدل قسري ، والإحسان طوعي ، ولكن في هذه الآية أنت كمؤمن مأمور بالإحسان كما أنت مأمور بالعدل ، فإذا كان هذا الشيء خارجاً عن العدالة فهو داخل بالإحسان، إن الله يأمر بالعدل والإحسان . إذاً من أدى زكاة ماله ، وأقرى الضيف ، وأعطى على النائبة هؤلاء الثلاثة من كن فيه فقد وقي شح نفسه .
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ..
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
المسخ :
أيها الأخوة الأكارم ؛ يقول علماء الوراثة من خلال الاستقراءات العلمية : إن البالغين الذين يعانون من تشوهات خلقية ، سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً لا ينجبون أبداً عند تزاوجهم، بل إن معظم حالات الإجهاض المبكر تنشأ عن تشوهات خلقية ، وإذا قُدر للأجنة المشوهة ، أو الممسوخة أن يستمر حملها فهي تولد في الأعم الأغلب ميتة ، أو تموت بعد أيام معدودة ، هذه حقيقة جاء بها علماء الوراثة من خلال استقراءاتهم ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح رواه الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود يقول :
(( إن الله تعالى لم يجعل لمسخ نسلاً ولا عقباً ، وقد كانت القردة والخنازير ))
المسخ : المشوه ، بل إن حديثاً آخر رواه الإمام مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
((ما جعل الله لمسخ من نسل ))
هذه رحمة مزجاة إلى الخلق ، فلو أن هذا الممسوخ أو هذا المشوه كان له نسل ممتد إلى أجيال لكنا أمام أجيال من المشوهين ، فالذي يشوه تصيبه عاهة ، هذا جعل الله نسله مقطوعاً لئلا يزداد التشوه في بني البشر ، بل إذا كان هناك تشوهات فهذه لها حكمة أخرى ، فإذا رأى الإنسان طفلاً غير سليم يبقى مع ربه داعياً منيباً متوسلاً متضرعاً أن يرزقه الله غلاماً سليماً ، فهذه وسائل لتوضيح نعمة الله على خلقه .
أيها الأخوة الأكارم ؛ حينما نكتشف أن هذا القرآن الكريم ومن خلاله الحديث النبوي الشريف الذي بينه وفصله من عند خالق الكون ، عندئذ نرحب بالحقيقة العلمية إذا وافقت القرآن أو الحديث ، لأن الأصل في الحقيقة كلام الصانع وكلام الخالق .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .